اخر الاخبارفن وترفيهمعلومات عامة

إبراهيم ناجي (1).. الشاعر «الطبيب» مداوي جراح الحب

ت + ت – الحجم الطبيعي

كما يحق للشاعر أن يتخيل ما يشاء، فيصعد إلى النجوم، ويمارس التحليق كالطيور، ويدخل إلى القلاع المحصنة، ويخترق الجبال والأودية، يحق للناقد أيضاً أن يفعل مثله، فيوقظ الموتى، ويدخل في حوار معهم، مبني على سير حياتهم، وما كتبوه من حكايات شعرهم وأدبهم.

ونقرع اليوم باب قبر إبراهيم ناجي، وندخل إلى عالمه، محاورين ومجادلين لإبراز القيم والأسس التي قامت عليها حياة الشاعر، وبنيت عليها قصائده.

 

قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الشاعر الرفيق.

 

قال: وعليكم السلام.. لماذا اخترت الحوار معي أنا بالذات؟

 

قلت: لأنني منذ سمعت قصيدتك الأطلال بصوت مطربة العرب الأولى أم كلثوم «رحمها الله»، وأنا أحاول أن أجمع تفاصيل سيرتك في دراسة وافية، كافية شافية.

 

قال: وما دمت قد جمعت هذه السيرة، فما حاجتك بي؟

 

قلت: هناك غموض بحاجة إلى توضيح منك.

 

قال: وما هذا الغموض؟

 

قلت: كما هو مسجل في صفحات سيرتك الذاتية، فأنت مولود في حي شبرا في القاهرة عام 1898.

 

قال: هذا صحيح.

 

قلت: هل تتذكر طفولتك في شبرا؟

 

قال: بل إنني لا أنسى حتى التفاصيل الصغيرة عن طفولتي في شبرا، فقد كنت أمارس الرياضة في حقول شبرا، التي ترويها الترعة البولاقية، وكان لتلك الحقول الخضراء، أكبر الأثر في إثارة القريحة الشعرية لديّ.

 

قلت: ملت إلى الشعر منذ طفولتك.. ومع ذلك درست الطب، ومارست عملك كطبيب، وهذا سر الغموض الذي أحاط بحياتك كشاعر.. والسؤال الذي أطرحه عليك، هل عشت حياتك كشاعر أم كطبيب؟

 

قال: ليس في هذا الأمر أي غموض، فالشعر ليس صنعة أو وظيفة، لقد تغير الزمن، ولم يعد لدينا شعراء متفرغون للشعر، فحافظ إبراهيم كتب في الاقتصاد، ومارس حياة العسكر، وكثير من الأدباء كانوا يمارسون مهناً أخرى، مثل الطب والاقتصاد، وحتى أعمال البناء، فأنا عملت كطبيب، وهذا ما أكسبني خبرة بالنفس البشرية، ومن خلال هذه الخبرة نضجت قصائدي، وحلّق شِعري في فضاء الإنسان.

 

قلت: في عام 1922 تخرجت في مدرسة الطب السلطانية، وعُينت في القسم الطبي لمصلحة السكك الحديدية بمدينة سوهاج بصعيد مصر، صحيح؟

 

قال: نعم صحيح.. ولكن قمت أيضاً بافتتاح عيادة هناك.

 

قلت: وهذا هو السؤال.. لماذا افتتحت هذه العيادة، وأنت تعمل في القسم الطبي للسكك الحديدية؟

 

قال: كان يعزّ عليّ أن أرى المرضى الفقراء الذين لا يستطيعون التداوي، ولذلك افتتحت هذه العيادة لاستقبالهم وعلاجهم دون مقابل.

 

قلت: ألم تشعر بالغربة وأنت بعيد عن مسقط رأسك؟

 

قال: لم تطل غربتي في الصعيد، ففي عام 1927، نُقلت إلى مدينة المنصورة في دلتا مصر.

 

قلت: ومتى التقيت شعراء جمعية أبوللو؟

 

قال: بعد أن انتقلت إلى المنصورة، التقيت ثلاثة شعراء انضموا معي إلى جماعة أبوللو.

 

قلت: ومن هم؟

 

قال: علي محمود طه وعبد المعطي الهمشري وصالح جودت.

 

قلت: وأين كنتم تلتقون؟

 

قال: في موقع بين النيل والجزيرة الرملية، أطلقنا عليه اسم صخرة الملتقى.

 

قلت: صارحني أيها الشاعر.. قصائدك تشير إلى أنك كنت عاشقاً غير عادي.. فهل كان هناك حب حقيقي، أم أنك تبعت الخيال؟

 

قال: كل شيء يمكن أن يصنعه الخيال، إلا الحب.

 

قلت: إذن أحببت

 

قال: نعم أحببت.. ولكن لم يكن ذلك الحب ناجحاً، فمن أحببتها أغلقت باب اللقاء.

 

قلت: كم كان عمرك عندما وقعت في ذلك الحب؟

 

قال: خمسة عشر عاماً.

 

قلت متعجباً: خمسة عشر عاماً فقط؟ وتقول مخاطباً من أحببت:

 

 

 

كِـلاَنَا عَلِيـلٌ فَلاَ تَجْـزَعِـي وَدَمْعُـكِ تَسْبِقُـهُ أَدْمُعِـي

 

وإن كان بين ضلوعكِ نارٌ فنارُ المَحَبَّةِ في أَضْلُعِي

 

 

 

قال: هذا صحيح.. فالحب يجعل المحب يكبر بسرعة، ولكن دارت الأيام، والتقيت من أحببت في سن الكهولة، ولم أستطع إلا أن أرتجل قائلاً:

 

ذَهَبَ الشَّبَابُ فَجِئْتِ بَعْدَ ذَهَابِهِ وَتَرَكْتِ ما أَطْفَـأْتِـهِ بِيَــدَيْــكِ

 

مَا تَلْتَقِي عَيْنِي بِعَيْنِــكِ لَحْظَــةً إلاَّ رَأَيْتِ صِبَــايَ فِي عَيْنَيْـكِ

 

قلت: ولكنك لم تثبت على هذا الحب.

 

قال: ماذا تعني؟

 

قلت: قال عنك الناقد نعمان عاشور: كان ناجي كلما رأى امرأة جميلة وقع في حبها، فالحب عنده مثل (قزقزة اللب).

 

قال: هذا ظلم واضح.

 

قلت: ألم تكن فعلاً مثل العصفور ينتقل من زهرة إلى أخرى؟

 

قال: كنت أحاول فقط أن أضمد جرح الحب الحقيقي الذي لم ينتهِ نهاية سعيدة.

 

قلت: تضمد جرح الحب أم تفتح جراحاً جديدة؟

 

قال: لم تكن حياتي التنقل من زهرة إلى أخرى، بل عشت شاعراً وطنياً، أتأثر بأحداث البلد، وأنظم الشعر الوطني الذي كان يجد القلوب المصغية والتفاعل الجماهيري المميز.

 

قلت: مثل؟

 

قال: قصيدة أعاصير مصرية، وقصيدة تحيا مصر.

 

قلت: أيها الشاعر الرقيق.. عندما سجلت سيرتك الذاتية، وجدت أنك مت في سن يعتبرها البعض سن الشباب، فسنة وفاتك كانت عام 1953، وسنة مولدك كانت 1898، يعني أنك لم تعش أكثر من خمسة وخمسين عاماً، ما السبب في رأيك؟

 

قال: حتى أنا نفسي لا أعرف سبباً لموتي، فلم أكن أشكو من أي مرض.

 

قلت: وأين كانت الوفاة؟

 

قال: في عيادتي في شبرا، شبرا كانت المهد وكانت اللحد أيضاً، كنت أدني رأسي من صدر مريض، بغية سماع دقات قلبه، ولكنني سقطت فاقداً الحياة.

 

قلت: قال عنترة:

 

ولو عرف الطبيب دواء داءٍ

 

 يَرُدُّ الموت ما قاسى النزاعـا

 

قال: عندما يدق الموت باب الحي، فلا مفر.

 

قلت: وماذا كان عطاؤك الشعري في سنوات عمرك القليلة؟

 

قال: ديوان وراء الغمام، وديوان ليالي القاهرة، وديوان في معبد الليل، وديوان الطائر الجريح.

 

قلت: لا أدري لماذا أميل إلى قصيدتك الأطلال، وأعتبرها قمة ما وصلت إليه، هل توافقني؟

 

قال: الأطلال غنّتها أم كلثوم، وأعطتها قيمة مضافة، ولكن لا أفرق بين قصائدي، فقصائدي أولادي.

 

قلت: أميل إلى سماع بعض أبيات قصيدتك الأطلال.

 

قال: وأنا أميل إلى سماع قصيدتي سجين الحياة.

 

قلت: أسمعنا بعض أبيات هذه القصيدة، ولكن على شرط.

 

قال: الأمر لا يحتاج إلى شروط.

 

قلت: نسمع إذن بعض أبيات من سجين الحياة ثم بعض أبيات من الأطلال، ولكن..

 

قال: ولكن ماذا؟

 

قلت: أنت تلقي أبيات سجين الحياة، وأنا ألقي بعض أبيات قصيدة الأطلال.

 

قال: اتفقنا.. وسأبدأ بسجين الحياة.

 

يـا سـجـيـن الحـيـاة أيــن الفرارُ

 

أوصــد الليــل بــابــه والنـهـــارُ

 

فلمن لفــتــةٌ وفــيــم ارتـقــــابٌ

 

ليـس بـعـد الذي انـتظرتَ انتظارُ

 

مـا الذي يـبتغي العليل المسجَّى

 

قـــد تـــولى العــوَّادُ والســمـــارُ

 

طالَ ليْلُ الغَـريبِ وامْتَنَعَ الغمضُ

 

وفـي المـضـجـع الغـضـا والنَّـارُ

 

أيــن أيــن الرحــيـل والتـسـيـارُ

 

بعـــــدت شقــــةٌ وشـــط مـــزارُ

 

ما انتفـاع الفتى بموحـشِ عيشٍ

 

بقيــت كــأســه وطــاحَ العُـقـــارُ

 

قلت: أبيات رائعة.

 

قال: أنت متحفز لإلقاء الأطلال فافعل.

 

قلت:

 

يا فؤادي رحم الله الهـــوى

 

كان صرحاً من خيـــال فهـوى

 

اسقني واشرب على أطلاله

 

واروِ عني طـالما الدمـع روى

 

كيف ذاك الحب أمسى خبراً

 

وحَـديثـاً من أحـاديث الجــوى

 

وبســـاطاً من نــدامى حلـم

 

هم تواروا أبــداً وهو انطــوى

 

لست أنساك وقـد أغريتنـي

 

بفـمٍ عـــذب المنــــاداة رقيـق

 

ويـــــدٍ تمتـد نحـوي كـيــدٍ

 

من خلال الموج مُــدّت لغريق

 

وبريقٍ يظمـأ السـاري لـه

 

أين من عينيك ذيّــاك البـريق

 

 

 

لست أنساك وقد أغريتني

 

بالذرى الشم فأدمنت الطّمـــوحُ

 

أنت روح في سمائي وأنا

 

لك أعلــو فكـأنـــي محض روحُ

 

يا لهـا من قمـــم كنَّـا بهـا

 

نتـــــلاقى وبسـرَّيْنَـــا نَبُــــــوحُ

 

نستشف الغيب من أبراجها

 

ونرى الناس ظلالًا في السفوحُ

 

ذهب العمر هباء فاذهبــي

 

لم يكـــن وعـــــدك إلا شبحَــــا

 

صفحة قد ذهب الدهر بها

 

أثبت الحـب عليهَـــا ومحَـــــــا

 

انظري ضِحكي ورقصي فرحا

 

وأنــا أحمـــل قلبـــاً ذبحَـــــــــا

 

ويراني الناس روحاً طائراً

 

والجَوى يطحنني طحن الرحَى

 

كنت تمثال خيـــالي فهــوى

 

المقـــاديـــر أرادت لا يَــــــدِي

 

وَيْحَهَا لَمْ تَدْرِ مَاذَا حَطَّمَتْ

 

حطَّمت تاجي وهَدَّتْ مَعْبَــــدِي

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock