اخر الاخبارالمال والاعمال

آخر معاقل الركود في وول ستريت

ft

كان من الشائع في بدايات 2023، توقّع حدوث ركود اقتصادي على المدى القريب، لكن هذا بات اليوم توقعاً محفوفاً بالمخاطر، حيث يرجح أغلب الاقتصاديين هبوطاً سلساً، باعتباره النهاية الأكثر ترجيحاً لهذه الدورة، ولأسباب مقنعة بدرجة كبيرة. فلا يزال التضخم يسجل مستويات منخفضة على نحو مفاجئ، ويمضي الاستهلاك قدماً بأقدام راسخة، رغم ارتفاع الفوائد. ووراء كل ذلك، توجد سوق عمل راسخة، أضافت صافي 200,000 وظيفة في نوفمبر، وهو ما فاق إجماع التقديرات بمقدار 50,000 وظيفة. وهكذا، أحبطت جوانب التحسن التي طالت العرض توقعات الركود.

ومع ذلك، هناك قلة من المعاندين في وول ستريت، بقيت في المعسكر الذي يتوقع ركود الاقتصاد. ورغم ثبوت خطأ حججهم في وقت مبكر من العام، إلا أنها تظل جديرة بالوضع في الاعتبار، وإن كان لمجرد فهم المخاطر التي تواجه سردية الهبوط السلس. ومع وضعها في الاعتبار، ما الذي يصب في صالح مسألة وقوع الركود؟.

بالنسبة لدون ريسميلر، الخبير الاقتصادي لدى «استراتيغاس»، تقديراته تبلغ 50 % لوقوع ركود، مقابل توقعات بنسبة 40 % بهبوط سلس، ومردّها إلى القلق حيال مسألة الهبوط السلس. وقد لخّص الأمر بشكل لطيف، قائلاً: «ما زالت هناك خمسة عناصر رئيسة تدعم سردية الهبوط السلس لاقتصاد الولايات المتحدة، لا يمكننا تبنيها كلياً بعد، وهي: 1) الاقتصاد بإمكانه استيعاب أسعار الفائدة الأعلى مع مواصلته النمو إلى أجل غير مُسمى. 2) حدوث استيعاب كامل للتأثيرات المتأخرة لتشديد السياسات والمصارف. 3) بقاء البطالة الأمريكية دون 4 %، مصحوبة بتضخم مقبول للأجور. 4) تحرك سوق العمل المحلية صوب حالة توازن فقط عبر خفض عدد الوظائف الشاغرة، وليس التوظيف ذاته. 5) إمكان تعامل الأسواق (السندات والأسهم والإسكان وما إلى ذلك) بسهولة مع الفائدة الأعلى لدى امتدادها عند هذه المستويات.

كذلك، أفصح ماثيو لوزيتي، الخبير الاقتصادي المتخصص في الشأن الأمريكي لدى «دويتشه بنك»، وهو من أنصار توقع الركود منذ مدة طويلة، عن حُجة مقنعة لوقوع ركود «معتدل»، مشيراً في هذا السياق إلى ثلاث نقاط عريضة. الأولى، تتمثل في تأثير تشديد الأوضاع التمويلية على الإنفاق الاستهلاكي، من خلال ازدياد حالات التأخر عن السداد، ويؤثّر سلباً أيضاً في استثمارات الأعمال بسبب خفض النفقات الرأسمالية. ويقترب مؤشر لوزيتي لخطط النفقات الرأسمالية من جانب المصنّعين، الذي يستقي بياناته من الاستطلاعات الإقليمية للاحتياطي الفيدرالي، من المنطقة الانكماشية. كما تنكمش مقاييس أخرى، مثل الاستثمار الحقيقي في معدات القطاع الخاص التي تدخل ضمن بيانات الناتج المحلي الإجمالي، على أساس سنوي، ما يتماشى وضيق الأوضاع المالية.

النقطة الثانية تتعلق بالسياسة المالية التي تسير عكس النمو. فقد أضاف الإنفاق المالي أو خصم قدراً ضئيلاً من النمو في 2023، لكن في 2024، تشير حسابات معهد «بروكنغز» إلى احتمال خصمه قرابة 0.6 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 2024. ويتماشى ذلك مع التقديرات بانكماش العجز المالي الأمريكي، وهو ما يعود جزئياً إلى زيادة في الإيرادات المُتوقعة من ضرائب أرباح رأس المال. والنقطة الثالثة، هي أن التضخم الأساسي لا يستقر بالضرورة عند 2 %، ما سيحد من قدر تخفيضات الفائدة الاستباقية التي يمكن للفيدرالي إقرارها. ويلفت لوزيتي هنا إلى اقتراب عدة مقاييس للتضخم الأساسي للفيدرالي من 3 %، وأن انخفاضها السريع قد توقف.

ويتفق آيتشي أميميا وجيريمي شوارتز، الخبيران الاقتصاديان المختصين بالشأن الأمريكي لدى «نومورا»، مع وجهة نظر لوزيتي، بشأن المخاطر على استثمارات الأعمال جراء ضيق الأوضاع المالية والائتمان. وأضافا نقطة أخرى، مفادها أن قوة سوق العمل ربما تكون مُبالغاً فيها. ولفت الاقتصاديان إلى عدة مؤشرات على انخفاض الطلب على العمالة، بما في ذلك تراجع الوظائف الشاغرة، وازدياد عدد العمالة التي تستجيب للاستطلاعات، وتقول إن الوظائف «صعبة المنال»، إلى جانب زيادة مدة الاستفادة من إعانات البطالة.

لكن، ماذا عن استمرار وتيرة نمو الوظائف؟ بعد تقرير الوظائف الصادر الجمعة الماضية، يبدو أن الاقتصاد أضاف 186,000 وظيفة في كل شهر من الأشهر الستة الماضية، بما في ذلك ما متوسطه 175,000 في أكتوبر ونوفمبر. ويتخطى هذا مستوى 75,000 أو نحو ذلك، اللازم لمواكبة النمو السكاني الأساسي.

ويرى أميميا وشوارتز أن الوظائف المُضافة خلال الماضيين، ستنخفض فعلياً إلى 120,000 وظيفة، عند استبعاد تأثيرات الإضرابات الأخيرة لعمال السيارات وهوليوود، التي رفعت الوظائف من جديد مع عودة الموظفين إلى العمل. ووفقاً لحسابات عُميّر شريف مؤسس ورئيس «إنفليشن إنسايتس»، فإن المتوسط الشهري لنمو الوظائف لستة أشهر، ربما يكون بحدود 130,000 وظيفة، ما يبقى معدلاً قوياً، لكنه يشي باحتياطي أقل في سوق العمل.

وأخيراً، يذكرنا ماركو كولانوفيتش كبير الخبراء الاستراتيجيين للسوق لدى «جيه بي مورغان»، وهو ليس محسوباً على معسكر الركود، لكنه يعتقد بأن مخاطره مُستهان بها، بأن منحنى العائدات ما زال معكوساً.

وقياساً بالتاريخ، فدائماً ما جاء الركود بعد انعكاسات المنحنى، لكن بفارق زمني قد يصل إلى العامين. وتمتد هذه الفترة إلى النصف الثاني من 2024، ما يعني أن ازدياد مخاطر الركود، يأتي متماشياً مع التاريخ.

وكتب كولانوفيتش: «… صار هناك إجماع على فكرة إمكانية تفادي الركود. نرى حُججاً، مثل عدم حدوث هبوط، والتوازن الاقتصادي، وموسمية عام الانتخابات، ومرونة سوق العمل، ورفع التقييمات، وإمكانية الاعتماد على الفيدرالي للتدخل في الأسواق المالية، وما إلى ذلك، باعتبارها نسخاً عديدة من عبارة «هذه المرة مختلفة»، لكن إذا ما عدنا إلى الأساسيات، والعدد الضئيل نسبياً لحالات الركود الممكن دراستها، لوجدنا أن الإشارة الآتية من انعكاس منحنى العائدات، تفيد بأن خطر الركود عند أعلى مستوياته بين 14 و24 شهراً من بداية الانعكاس. وستغطي هذه المدة غالبية عام 2024».

لكن هناك حاجة لتخفيف حدة هذه الحُجج، خاصة وجهة نظر كولانوفيتش بشأن منحنى العائدات، عبر الإقرار بأن هذه الدورة التي يهيمن عليها جانب العرض تبدو مختلفة.

وكانت اضطرابات العرض، وتحوّل الإنفاق من السلع إلى الخدمات، مسؤولين إلى حد كبير عن تصاعد التضخم، فيما كانت التحسينات التي طرأت على المعروض من العمالة مسؤولة عن انخفاضه، ما يجعل الجانب التاريخي من المقارنة دليلاً مختلاً. تسلّط المعاقل الأخيرة للركود في وول ستريت، الضوء على الضعف الحقيقي في سردية الهبوط السلس، وهي أنه يتطلب سير كافة الأمور على ما يرام في الوقت ذاته.

وبالأخص، هناك حاجة لاستمرار احتواء ضعف استثمارات الأعمال وانخفاض الاستهلاك، بينما تعود سوق العمل إلى طبيعتها. لكن الأمر سيستغرق بضعة أشهر إضافية لكي يعود إلى طبيعته، بالنظر إلى بلوغ النسبة بين الوظائف الشاغرة إلى العمالة العاطلة مستويات أعلى من المُسجلة في 2019 بنسبة 12 %، وسيكون هذا وقتاً كافياً ليحدث خطب ما سلبي. وهكذا، يُعدّ إجماع الرهان على الهبوط السلس أمراً جيداً، لكنه ليس حصيناً بأي حال من الأحوال.

كلمات دالة:
  • FT

آخر معاقل الركود في وول ستريت

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock